قناة السويس بين السيادة المصرية والتبعية الغربية (2)

توقفنا في الجزء الأول من المقال عند إتفاق اللجنة الدولية في إجتماعها بالقسطنطينية على بنود تضمن حرية المرور عبر قناة السويس عرفت فيما بعد بإتفاقية القسطنطينية ،وعلى مدار ما يزيد عن مائة وخمسة وعشرون عاماً منذ توقيع تلك الإتفاقية ويتخذها المستعمر وسيلة للتحكم فى حركة السفن فى القناة كما يتخذها حكام مصر وسيلة لإعلان الخنوع والإستسلام للقوى الخارجية في حروبها على الدول الشقيقة ،على الرغم من أن الاتفاقية لم تمنع مصر من تقييد الملاحة بالقناة متى كان هناك خطراً يتهددها فقد نصت المادة العاشرة على : “كذلك لا تتعارض أحكام المواد 4، 5، 7، 8 مع التدابير التى قد يرى عظمة السلطان وسمو الخديوى اتخاذها باسم صاحب الجلالة الإمبراطورية ليضمنا بواسطة قواتهما فى حدود الفرمانات الممنوحة الدفاع عن مصر وصيانة أمنها. وإذا رأى صاحب العظمة الإمبراطورية السلطان، وسمو الخديو ضرورة استعمال الحقوق الاستثنائية بهذه المادة، فإنه يجب على حكومة الإمبراطورية العثمانية أن تخطر بذلك الدول الموقعة على تصريح لندن، ومن المتفق عليه أيضاً أن أحكام المواد الأربعة المذكورة لا تتعارض إطلاقاً مع التدابير التى ترى حكومة الإمبراطورية العثمانية ضرورة اتخاذها لكى تضمن بواسطة قواتها الخاصة، الدفاع عن ممتلكاتها الخاصة الواقعة على الجانب الشرقى من البحر الأحمر.” وكذلك المادة الثالثة عشر والتى نصت على : “فيما عدا الالتزامات المنصوص عليها فى هذه المعاهدة، لا تمس حقوق السيادة التى لصاحب العظمة السلطان وحقوق صاحب السمو الخديو وامتيازاته المستمدة من الفرمانات”. فالاتفاقية تنص على إتاحة حرية الملاحة فى كل وقت ولكل السفن الحربية والتجارية دون تمييز ولا تقييد الملاحة إلا فى حالة خطر يهدد مصر أو سلامة القناة أو منشآتها أو ينال من سيادتها على أنه يجب على مصر أن تقوم بالتدابير التى ترأها بشرط ألا يؤدى ذلك لإغلاق القناة وإنما تستمر أيضاً حرية الملاحة بما يفيد أن التقييد يقتصر على السفن مصدر الخطر دون أن ينال غيرها وهو المبدأ الذى استخدمته مصر ضد السفن الإسرائيلية حيث كانت تمنع مرورها ولم تتمكن السفن الإسرائيلية من عبور القناة إلا بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد فما قامت به مصر كان يستند إلى سبب صحيح فى الاتفاقية وانطلاقاً من حقها فى السيادة على إقليمها.

فالسيادة مفهوم قانونى يتمثل واقعاً سياسياً معيناً هو القدرة على الانفراد بإصدار القرار السياسى فى داخل الدولة على وجه النهائية وفى خارجها ومن ثم القدرة الفعلية على الاحتكار الشرعى لأدوات القمع الداخلى وعلى رفض الامتثال لأية سلطة تأتيها من الخارج.

ويستخلص من أقوال الفقهاء عن السيادة بأنها سلطة الدولة التى لا توجد سلطة أخرى تعلوها أو تشاركها فى إدارة شئون إقليمها، فالدولة هى السيد الأعلى الذى لا يعترف بسلطان يعلو عليه ولها أن تتخذ كل ما تراه كفيلاً بتأكيد سيادتها على الإقليم ولا يجوز بحال أن ينزع منها شئ من اختصاصها ولكل دولة ذات سيادة أن تقدر بحرية تامة المراكز الدولية التى تعنيها وتقرر سيادتها بالنسبة لها وذلك لا يتنافى البتة مع احترام الدول لأحكام القانون الدولى ولالتزاماتها الدولية.

وقد وجدت تطبيقات قضائية تقرر حق الدولة صاحبة القناة فى تقييد استخدامها إذا كان هناك خطر يتهدد سلامتها أو أمن وسلامة الدولة صاحبتها، فقد ذهبت المحكمة الدائمة للعدل الدولى فى حكمها الشهير فى القضية المعروفة باسم (قضية ويمبلدون) أن يحق للدولة صاحبة القناة أن تحول دون استعمالها متى جاء ذلك هذا الاستعمال على نحو يهدد أمن تلك الدولة وسلامتها.

ويجدر بنا حينما نتناول معاهدة القسطنطينية أن نرى الواقع الذى نشأت فيه تلك المعاهدة حيث كان الواقع الدولى السائد عند توقيعها بعيداً كل البعد عن ضوابط العدالة بل كان متجاهلاً للضوابط الأخلاقية والإنسانية والثقافية فقد كان يسيطر عليه شهوة احتلال الآخر والعدوان عليه ونهب ثرواته، فلم يكن لعدالة الباعث على الحرب أو مشروعيته أى تأثير على قيام الحروب أو تبريرها، ولم تخضع تلك الحروب لأية قيود أو ضوابط إنسانية بل خضعت لشريعة الغاب إلى الحد الذى جعل الفقيه _ Hougo Grotius – ويعد من أبرز رواد فقه القانون الدولى فيما يعده الكثيرين أول مؤسس قواعد هذا القانون – يذهب إلى القول: ( إننى أرى من العالم المسيحى إفراطاً فى الحرب تخجل منه حتى الأمم المتوحشة لأسباب واهية وحتى بلا سبب، فيندفع الناس إلى السلاح ولا تراعى فى الأسلحة المستخدمة لا القانون الإلهى ولا القانون الإنسانى كما لو لم يوجد سوى قانون واحد هو قانون التسابق لارتكاب أنواع الجرائم ).من هذا الواقع نشأت ووقعت اتفاقية القسطنطينية وحملت بداخلها تناقض حرية الملاحة للسفن المدنية والحربية على السواء دون تمييز فالأولى تعنى بالتقدم والإنماء وزيادة الثروات والثانية تعنى بالخراب والدمار.

وفى الحقيقة فإن واقع المجتمع الدولى اليوم يطرح ضرورة تعديل كل الاتفاقيات التى تسهل الحرب ومنها بلا شك اتفاقية القسطنطينية التى تتيح حرية الملاحة للسفن فلابد من تقييد هذا الحق أو تضييقه وإعطاء حق المرور فى كل القنوات للمرور الذى يستهدف أعمال تحت غطاء الأمم المتحدة أو المرور للوصول إلى نقاط التدريب أو المناورات أو الزيارات على أن يمنع المرور للسفن الحربية المتجهة للعدوان والحرب خارج إطار الأمم المتحدة وإذا كان ذلك متضمن ضمنياً من خلال فقه القانون الدولى ومن خلال القواعد الدولية الجديدة المستمدة من ميثاق الأمم المتحدة والإعلانات الصادرة عنها إلا أنه صار من الواجب النص صراحة على ذلك حتى لا يكون هناك مجال للتأويل أو المناورة.

 

يتبع ….

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *